الحكومة والشيعة
يرصد المراقب للموقف الشيعي على الساحة المحلية ظهور توجهين مختلفين في داخله تجاه الأحداث المحلية وتجاه الموقف الحكومي، وهو ما قد يعكس انقساما وتباينا كبيرا في التوجهات السياسية والاجتماعية داخل البيت الشيعي،
كما يعكس الانقسام الشيعي إخفاقا حكوميا في المحافظة على الأوراق السياسية الموجودة في جعبتها لاستخدامها في مناوراتها التكتيكية للحصول على ما يسمى بالولاءات السياسية التي تحتاجها في عملية ادارة البلد.بمعنى ان الحكومة لم تعد تستطيع ان تضمن وجود صوت شيعي قوي موحّد وغير منقسم يقف الى جانبها مدافعا عن سياساتها. أي ان الموقف الشيعي بات مؤشرا على تخبط تكتيكات الولاء الحكومية.
وتبرهن الأحداث على الساحة المحلية، ان الحكومة لم تساهم فحسب في انقسام الموقف الشيعي، بل ساهمت عبر سياساتها التكتيكية غير الموفقة في فقدان العديد من الشرائح السياسية والاجتماعية، ومن ضمنها شريحة الحضر السنة التي كانت معروفة تاريخياً بمساندتها لآل الصباح منذ نشأة الكويت .وقد حدث ذلك بسبب التكتيكات الخاطئة التي مارستها الحكومة بإهمالهم واحتقارهم وتقريب الأراذل منهم واستبعاد الكفاءات المنتجة من هذه الفئة .بل ان مراقبين يتوقعون ان تفضي مثل تلك التكتيكات الى فقدان مزيد من الأوراق السياسية والاجتماعية من أيدي الحكومة.فعلى سبيل المثال، لم يبق من التيار السلفي، المعروف بمواقفه القريبة في غالبها من الحكومة، الا التوجه التقليدي المتمثل في جمعية احياء التراث والذي لايزال يميل الى الموقف ، في حين ان التوجه السلفي الشبابي (ان جاز التعبير) بات يعتبر نفسه معارضا قويا ضد السياسات الحكومية.
لقد عكس الاجتماع التشاوري الشيعي الذي عُقد في منزل الحاج علي المتروك قبل أكثر من شهر، الانقسام الشيعي تجاه السياسات الحكومية وتجاه الأحداث المحلية وتجاه الموقف الشيعي منها، وفي مقدمتها تلك المؤججة للطائفية.لقد أشار ما دار من حديث خلال الاجتماع الى ان البيت الشيعي بات منقسما الى توجهين: الأول يسعى لرفع شعار الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية وضرب مشعلي فتنها، واستخدام الخطاب الهادئ والمعتدل تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، وتشخيص الموقف الحكومي لتحديد رأي اما مساند واما معارض له واما محايد، مستندا في ذلك الى تاريخ التعايش بين الشيعة والسنة والى ما يتضمنه تاريخ الحكم في الكويت من تباينات في ادارة البلد.ويمثل هذا التوجه غالبية الشخصيات التي التقت في الاجتماع التشاوري بديوان المتروك، وهي معروفة تاريخيا بمواقفها السياسية والاجتماعية المعتدلة وتمتلك رصيدا مناهضا للطائفية.وقد أشار البيان الصادر عن الاجتماع الى جملة من التوصيات تؤكد في مجملها على رفض الممارسات، سواء الشيعية أو السنية، المؤججة للطائفية، وتؤكد على المحافظة على الوحدة الوطنية والتآلف بين كل الأطياف والتصدي للممارسات السلبية والمساهمة في التعايش الأخوي المشترك، حيث كان الاجتماع - حسب البيان - بمثابة تبادل للآراء للتصدي لكثير من السلبيات التي انتشرت في الساحة المحلية في الآونة الأخيرة، كالمد الطائفي الذي أخذ يزداد ويمكن ان يعرض أمن البلاد الى ما لا تحمد عقباه، حيث أشار الى وجود مجموعات تستثمر ذلك.
أما التوجه الثاني فيتكون من الجماعات والشخصيات البارزة سياسياً واجتماعيا ودينيا في الوسط الشيعي والتي لم تحضر اجتماع ديوان المتروك، وهي تتميز بولائها لإيران وبصوتها الطائفي العالي المثير للجدل، حيث تستخدم الملف الطائفي في دفاعها عن الحقوق الدينية والسياسية والاجتماعية للشيعة، وكذلك تدافع عن جميع المواقف الحكومية من دون تمييز بين موقف وآخر، ويمثل هذه التوجه طيف متباين من الشخصيات والجماعات، من ضمنها تلك العاملة في اطار جريدة «الدار» وقناة «العدالة»، وكذلك بعض الشخصيات المثيرة للجدل يأتي على رأسها رجل الدين السيد محمد باقر المهري.
ان التاريخ السياسي للشيعة في الكويت يشير بوضوح الى ان صوت الشيعة كان يعتبر باستمرار الصوت الموالي للحكومة، ويعود ذلك الى اعتبارات متعددة يأتي على رأسها ان الشيعة كانوا (ولايزالون) يمثلون أقلية في المجتمع الكويتي، وبعضهم كان في النصف الأول من القرن الماضي حديث عهد بالكويت،فاحتاجوا الى مظلة يستظلون بها (وهي الحكومة) لأن بعضهم قادمون من إيران ولازال قلبهم ينبض بحبها وتفضيلها على الكويت التي اكتسبوا جنسيتها حديثاً، لذلك كانت مواقفهم السياسية تقف الى جانب الموقف الحكومي لتحتمي به من غضب الكويتيين .وفي الجانب الآخر قام بعض المندفعين والمتهورين من ذوي الشعارات القومية والناصرية المعادين للخط الديني والمعادين للحكومة والمحسوبين خطأً على المذهب السني من أمثال الدكتور الأحمق أحمد الخطيب وجماعته ،قاموا بمناوشات ضد الحكومة والسنة والشيعة لجلب الأنظار ولخلق نوع من الفوضى بالإتفاق مع تنظيمات يسارية خارجية وخاصة الشيوعيين الفلسطينيين فاتجهت الحكومة الغبية إلى هذه الفئة لإرضائها وبذرت بذلك بذور سياسة التنازل للصوت الأعلى المتطرف وإهمال المحاور الهادئ المعتدل ، ثم اتجهت للتجار الشيعة لإدارة أموالهم فقويت شوكة اليساريين والقوميين بينما ضاع الكويتيون المعتدلون السنة والشيعة في هذه المعمعة.
ومع بداية الثمانينات من القرن الماضي كشف تنظيم شيعي ذو حقد طائفي وشعوبي سياسي عن حقيقة نواياه التي كان يحرص على إخفائها قبل ثورة إيران الفارسية ،فقام بمعارضة الحكومة والسلطة لأول مرة في تاريخ الكويت السياسي وأعلن تسمية نفسه بحزب الله الكويت.وارتبطت ولادة هذا التوجه بالثورة الاسلامية في ايران، التي سعت الى تجنيد مناصرين لها من أبناء دول المنطقة للدفاع عن مشروعها الثوري وأهدافها التوسعية التصديرية في الإنقلاب على الحكومات السنية ، مما حدا بحكومات المنطقة – ومن ضمنها الحكومة الكويتية – ان تقف ضد تلك الأهداف،وهو الأمر الذي أدى الى ظهور خارطة سياسية جديدة في المنطقة من صورها مواجهة مناصري الثورة.وما لبث ان أدت الحرب العراقية الايرانية الى ترسيخ أقدام المعارضة الشيعية الجديدة في الواقع السياسي الكويتي، كون هذه المعارضة تساند الحكومة الثورية في طهران دينيا وحركيا، في حين كان الموقف الحكومي الكويتي مساندا للموقف العراقي لأسباب قوية من ضمنها السعي لوقف المد الثوري الهادف الى التوسع والهديد بابتلاع الكويت .
ولكن بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 من براثن الطاغية الغبي صدام حسين استمر الصوت العالي لحزب الله في الكويت ولكن بوتيرة أخف.فالعنصر الذي ساهم في توتير العلاقة بين الحكومة الكويتية والشيعة، أي نظام صدام حسين، أصبح عدوا مشتركا.واستمرت الوتيرة على هذا المنوال صعودا وهبوطا حتى انفجرت قضية تأبين المسؤول العسكري في حزب الله لبنان عماد مغنية الذي قتل في دمشق قبل عدة أعوام.وكان الموقف الحكومي من قضية التأبين بمثابة فرصة ذهبية لها لتطبيق سياسة التذلل للمعرضين عنها والمعارضين لها . وبدل التشدد مع من لاينوون بها وبالكويت خيراً ،قامت حكومة الكويت ، إثر وقوف الشيعة المتطرفين ً إلى جانب المتهمين في تنظيم التأبين، قامت بتبرئة المجرم الإرهابي الشيعي عماد مغنية في جرائم ارهابية جرت في ثمانينات القرن الماضي ضد طائرة «الجابرية» وضد موكب أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد.وزادت على ذلك أن قامت بإعطاء بعض المزايا للشيعة ولحزب الله بالذات،رغم علمها بأنه ضالع بكل أو بعض تلك الجرائم ،وأخذت تتقرب من المتطرفين الشيعة فعينت وزيرا من حزب الله لأول مرة في الحكومة هو فاضل صفر ثم أعادت فتح جمعية الثقافة الاجتماعية،التي كانت وكراً للمؤامرات الإيرانية على الكويت والتي كان يديرها هؤلاء المتطرفون،فساهم كل ذلك التذلل في تخفيف التوتر بين الحكومة وحزب الله الكويتي ، فكسب المتطرفون الشيعة جولة أخرى ضد الشيعة والسنة المعتدلين بسبب سياسة الحكومة الغبية. وقد يقال إن ذلك بعد نظر من الحكومة ،ولكنه في الحقيقة قصر نظر لحكومة عاجزة عن إدارة شئون الدولة لان أضعف الدول الخليجية وهي البحرين لاتجامل المتطرفين الشيعة ،ولكنها تتصدى لهم رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها تلك الدولة الفقيرة .
واختصاراً للموضوع ، فقد ساهمت قضية تأبين مغنية في تقريب وجهات نظر أغلب المكونات السياسية والاجتماعية والدينية الشيعية مع بعضها رغم الاختلافات الكثيرة الموجودة في هذا المكون الشيعي إلى حد انه تم الإعتقاد بأن الشيعة أصبحوا كتلة سياسية اجتماعية واحدة، وانعكس ذلك على نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية وقبل الماضية.
أما ذلك التوافق بين المكونات الشيعية السلبق ذكره كان يحمل في طياته بذور خلافات عرقية ومرجعية وأيديولوجية حولت صوت الشيعة الى صوتين مختلفين، بل ومناهضين لبعضيهما البعض. فمع علو الصوت الشيعي الطائفي الذي يمثله الشيعة التابعون للخطط الإيرانية والذي أراد أن يطمس الشيعة الآخرين وخاصة القلاليف والحساوية العرب والتابعين للميرزا الأحقاقي وغيرهم ،وأن يجعلهم تحت عباءته ،وأن تكون الغلبة النسبية في الساحة الشيعية له مما أدى إلى امتعاض الأطراف الشيعية المهضوم حقها .
وقد ساهم في ذلك رئيس الحكومة الشيخ ناصر المحمد والشيخ أحمد الفهد ، فمثلما أقصى هذان الشيخان المتنفذان السنة المعتدلين من لائحة اهتمامهما ، استعان كل منهما بالمتطرفين الشيعة وخاصة من ذوي الأصول الإيرانية لتحقيق مآربهما الشخصية الضيقة المتعلقة بمنصب رئاسة الوزراء رغم نفاقهما لبعضهما البعض أمام عدسات الكاميرا، فساند الشيخ ناصر المحمد المهري وجماعته حتى أنه منح سكرتيرته الصفوية تهاني غلوم أرضاً حكومية غالية الثمن في منطقة الروضة دون مقابل ،وعلى الجانب الآخر ساند الشيخ أحمد الفهد المتطرفين الشيعيين صالح عاشور وعبدالله سهر اللذان يديران دسائسه الإنتخابية ضد ناصر المحمد وناصر صباح الأحمد وغيرهما من الشيوخ
وقد بالغ أصحاب هذا الصوت الطائفي العالي المتطرف في الثقة بأنفسهم على حساب الشيعة الآخرين ، فساهم ذلك في انفراط مسبحة الوحدة الشيعية.اذ أن الكثير من الشخصيات الشيعية المعروفة والمؤثرة على الساحة السياسية والاجتماعية عارضوا الوتيرة الطائفية المرتفعة واعتبروها مسيئة للوحدة الوطنية ومؤججة للطائفية وتخدم أجندة خارجية.وأبرز مثال على ذلك احتجاج الأديب الشيعي علي المتروك على تصريحات السيد محمد باقر المهري، وآخرها تلك التصريحات التي تعهد خلال لقاء له في ديوانه بحضور بعض الشخصيات الرئيسية المحسوبة على الصوت الطائفي العالي بأن الشيعة سيسعون الى ايصال محمد الجويهل إلى سدة البرلمان، حيث وصف المتروك المهري بأنه «مفتن» ولا يمكن أن يمثل الشيعة، وحذر من أن هناك من يتربص بالكويت وهناك من لا يريد للديموقراطية أن تستمر، وحذر من وجود أناس يشترون بالمال ولهم صحف تنطق باسم الخارج، في إشارة واضحة الى المحسوبين على نبرة الخطاب الاعلامي الطائفي العالي.
فخريه بوسلطان